الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ جُمْلَةَ: وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُرَاءُونَ وَكَذَا مُذَبْذَبِينَ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُنَافِقِينَ، يُوَالُونَهُمْ وَيَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ النَّصْرُ وَالسُّلْطَانُ، وَأَنْ يُلْحَقُوا بِهِمْ، وَيَعُدُّوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ مُؤْمِنٍ، حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحْذُوَ بَعْضُ ضُعَفَائِهِمْ حَذْوَ الْمُنَافِقِينَ فِي وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي خِلَافِ مَصْلَحَتِهِمْ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، وَيَرْجُونَ مِنْهُمُ الْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَخْطُرُ فِي بَالِ صَاحِبِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِذْ كَتَبَ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِهِمْ؛ لِأَنَّ لَهُ عِنْدَهُمْ أَهْلًا وَمَالًا، فَالْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ مِنَ الْوِلَايَةِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ النُّصْرَةُ، وَأَمَّا الْوَلَايَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَهِيَ تَوَلِّي الْأَمْرِ، وَقِيلَ: يُطْلَقُ اللَّفْظَانِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْمُرَادُ هُنَا النُّصْرَةُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ فِيمَا يُنَافِي مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [5: 51]، إِلَخْ، وَإِنْ عَمَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ بَعْدَهَا: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [5: 52]، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَالْخَوْفُ مِنْ إِصَابَةِ الدَّائِرَةِ، وَذِكْرُ الْفَتْحِ وَنَدَمِهِمْ إِذَا جَعَلَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ هُنَا وِلَايَةُ النُّصْرَةِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا حَرْبًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ لَا يَشْمَلُ مَنْ لَيْسُوا كَذَلِكَ كَالذِّمِّيِّينَ إِذَا اسْتَخْدَمَتْهُمُ الدَّوْلَةُ، فِي أَعْمَالِهَا الْحَرْبِيَّةِ أَوِ الْإِدَارِيَّةِ بَلْ لِهَؤُلَاءِ حُكْمٌ آخَرُ.وَلَمَّا كُنْتُ فِي الْآسِتَانَةِ سَنَةَ 1328هـ، أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْرِفَ حَالَ التَّعْلِيمِ الدِّينِيِّ فِي دَارِ الْفُنُونِ الَّتِي هِيَ الْمَدْرَسَةُ الْجَامِعَةُ فِي عَاصِمَةِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا دَخَلَتُ الْحُجْرَةَ الَّتِي يُقْرَأُ فِيهَا التَّفْسِيرَ أَلْفَيْتُ الْمُدَرِّسَ يُفَسِّرُ آيَةَ الْمَائِدَةِ هَذِهِ وَعُمْدَتُهُ تَفْسِيرُ الْبَيْضَاوِيِّ، وَهُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَارِسِهِمُ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ يُفَسِّرُ الْآيَةَ بِعَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَدَمِ مُعَاشَرَتِهِمْ مُعَاشَرَةَ الْأَحْبَابِ وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ أَغْلَاطِهِ، فَلَمَّا قُرِّرَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُ بِالتُّرْكِيَّةِ قَامَ أَحَدُ الطَّلَبَةِ وَقَالَ لَهُ: إِذَنْ كَيْفَ جَعَلَتْهُمْ دَوْلَتُنَا فِي مَجْلِسَيِ الْمَبْعُوثِينَ وَالْأَعْيَانِ وَفِي هَيْئَةِ الْوُكَلَاءِ؟ أَيْ: وُزَرَاءُ الدَّوْلَةِ فَفَاجَأَ الْمُدَرِّسَ الْحَصْرُ وَخَرَجَ الْعَرَقُ مِنْ جَبِينِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنَّ عَمَلَ الدَّوْلَةِ هَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دِيوَانِ الْحَرْبِ الْعُرْفِيِّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْإِعْدَامِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَهَلْ لِلْمُقَلِّدِ إِلَّا نَقْلُ مَا يَرَاهُ فِي الْكِتَابِ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنَّ أُجِيبَ هَذَا الطَّالِبَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُمْتُ وَاقِفًا وَبَيَّنْتُ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَكَيْفَ كَانَ حَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَتَحْقِيقُ كَوْنِ الْوِلَايَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الْآيَةِ، وَهِيَ وِلَايَةُ النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ لَهُمْ وَكَانُوا مُحَارِبِينَ، وَكَوْنُ اسْتِخْدَامِ الذِّمِّيِّينَ مِنْهُمْ فِي الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهَا بَلْ لَهُ أَحْكَامٌ أُخْرَى، وَالصَّحَابَةُ قَدِ اسْتَخْدَمُوهُمْ فِي الدَّوَاوِينِ الْأَمِيرِيَّةِ، وَالْعَبَّاسِيُّونَ جَعَلُوا إِسْحَاقَ الصَّابِيَّ وَزِيرًا فَاقْتَنَعَ السَّائِلُ، وَأَفْرَخَ رَوْعَ الْمُدَرِّسِ، وَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ مُدِيرُ قِسْمِ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأَدَبِيَّاتِ فِي دَارِ الْفُنُونِ اتَّخَذَهُ وَسِيلَةً لِإِصْدَارِ أَمْرٍ مِنْ نَاظِرِ الْمَعَارِفِ بِقِرَاءَةِ دَرْسِ التَّفْسِيرِ وَكَذَا دَرْسِ الْحَدِيثِ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي بَعْضِ السِّنِينِ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِجَعْلِي مُدَرِّسًا لِلتَّفْسِيرِ إِنْ أَقَمْتُ فِي الْآسِتَانَةِ.أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُجَّةً بَيِّنَةً عَلَى اسْتِحْقَاقِكُمْ لِعَذَابِهِ إِذَا اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْمُنَافِقِينَ، فَالسُّلْطَانُ بِمَعْنَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى السُّلْطَةِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُسَلِّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، وَلَكِنَّ وَصْفَ السُّلْطَانِ بِالْمُبِينِ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيُسْتَعْمَلُ الْمُبِينُ بِمَعْنَى الْبَيِّنِ فِي نَفْسِهِ، وَمَعْنَى الْمُبَيِّنِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَزَاءَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ بَيَانِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا هَذَا الْجَزَاءَ فَقَالَ:إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، الدَّرْكُ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَبِهِ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَبِفَتْحِهَا وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّبَقَةِ أَوِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ مُتَدَارِكَةٌ مُتَتَابِعَةٌ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ دَارَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ ذَاتُ دَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَسْفَلُ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّ دَارَ النَّعِيمِ دَرَجَاتُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ أَهْلِهَا {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [20: 75، 76].وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ شَرُّ أَهْلِهَا بِمَا جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَمُخَادَعَةِ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَغِشِّهِمْ، فَأَرْوَاحُهُمْ أَسْفَلُ الْأَرْوَاحِ وَأَنْفُسُهُمْ أَخَسُّ الْأَنْفُسِ، وَأَكْثَرُ الْكُفَّارِ قَدْ أَفْسَدَ فِطْرَتَهُمُ التَّقْلِيدُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الْجَهْلُ بِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، فَهُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ، بِاتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ، وَوُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قِيَاسًا عَلَى مُعَامَلَةِ مُلُوكِهِمُ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَأُمَرَائِهِمُ الظَّالِمِينَ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ فِي الدِّينِ وَمُخَادَعَةَ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْغِشِّ، وَمُقَابَلَةِ هَذَا بِوَجْهٍ وَذَاكَ بِوَجْهٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُونَ أَسْفَلَ النَّاسِ أَرْوَاحًا وَعُقُولًا كَانُوا أَجْدَرَ النَّاسِ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا، يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِهَا أَوْ يَرْفَعُهُمْ مِنَ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى إِلَى مَا فَوْقَهَا.إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الشَّدِيدِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَنْ تَابُوا مِنَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِالنَّدَمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مَعَ تَرْكِهِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ مُقَارَفَتِهِ وَعَزَّزُوا هَذِهِ التَّوْبَةَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:(أَحَدُهَا): الْإِصْلَاحُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَغْسِلُ مَا تَلَوَّثَتْ بِهِ النَّفْسُ مِنْ أَعْمَاقِ النِّفَاقِ، كَالْتِزَامِ الصِّدْقِ وَالنَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَالْأَمَانَةِ التَّامَّةِ، وَالْوَفَاءِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ:(ثَانِيَهَا): الِاعْتِصَامُ بِاللهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِ، تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِهِ وَتَأَدُّبًا بِآدَابِهِ، وَاعْتِبَارًا بِمَوَاعِظِهِ، وَرَجَاءً فِي وَعْدِهِ وَخَوْفًا مِنْ وَعِيدِهِ، وَانْتِهَاءً عَنْ مُنْهِيَاتِهِ، وَائْتِمَارًا بِأَوَامِرِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ} [3: 103]، وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بِرِهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلَنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [4: 174، 175]، أَيْ: اعْتَصَمُوا بِهَذَا النُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.(ثَالِثُهَا): إِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فَلَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ أَحَدٌ، وَلَا يُدْعَى مَعَهُ أَحَدٌ، لَا لِكَشْفِ ضُرٍّ وَلَا لِجَلْبِ نَفْعٍ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ يُجْعَلُونَ وُسَطَاءَ عِنْدَهُ، بَلْ يَكُونُ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالْعِبَادَةِ- وَأَعْظَمُهَا وَأَهَمُّ أَرْكَانِهَا الدُّعَاءُ- خَالِصًا لَهُ وَحْدَهُ، لَا تَتَوَجَّهُ فِيهِ النَّفْسُ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَسْأَلُ اللِّسَانُ سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْبَشَرِ بِمَنْ عَدَاهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هَذَا هُوَ أَهَمُّ مَا يُقَالُ فِي إِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [39: 2، 3]، فَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْهَاوِيَةِ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ.فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ لِتِلْكَ الْأَعْمَالِ عَامِلُونَ، يَكُونُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، يُؤْمِنُونَ إِيمَانَهُمْ وَيَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ، ثُمَّ يُجْزَوْنَ جَزَاءَهُمْ، وَهُوَ مَا عَظَّمَ اللهُ تَعَالَى شَأْنَهُ بِقَوْلِهِ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، أَيْ: سَوْفَ يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ كُنْهَهُ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [32: 17].مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ بَيَّنَ اللهُ لَنَا بِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ تَشَفِّيًا مِنْهُ وَلَا انْتِقَامًا بِالْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنَ الِانْتِقَامِ بِحَسَبِ اسْتِعْمَالِهِمْ إِيَّاهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ جَزَاءُ كُفْرِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ وَالْجَوَارِحِ، بِاسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا إِلَى تَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ بِالْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ، وَكُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى بِاتِّخَاذِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَإِنْ سَمَّاهُمْ بَعْضُهُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ، فَبِكُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى وَبِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ تَفْسُدُ فِطْرَتُهُمْ، وَتَتَدَنَّسُ أَرْوَاحُهُمْ فَتَهْبِطُ بِهِمْ فِي دَرَكَاتِ الْهَاوِيَةِ وَيَكُونُونَ هُمُ الْجَانِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ شَكَرُوا وَآمَنُوا فَطَهُرَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، وَظَهَرَتْ آثَارُ عُقُولِهِمْ وَسَائِرُ قُوَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُصْلِحَةِ لِمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَعَرَجَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْقُدْسِيَّةُ إِلَى الْمَقَامِ الْكَرِيمِ، وَالرِّضْوَانِ الْكَبِيرِ فِي دَارِ النَّعِيمِ، وَقَدَّمَ الشُّكْرَ هُنَا عَلَى الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ النِّعَمِ وَالشُّكْرَ عَلَيْهَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ وَالْإِيمَانِ بِهِ.وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا، يُثِيبُ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ الْمُصْلِحِينَ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ، لَا أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ، بَلْ يُعْطِيهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى شُكْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [14: 7] سَمَّى ثَبَاتَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ شُكْرًا، وَهُمْ إِنَّمَا يُحْسِنُونَ بِشُكْرِهِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ وَعَنْ شُكْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَلَكِنْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ، بِأَنْ يَكُونَ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَثَرٌ صَالِحٌ فِي النَّفْسِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ.وَأَنْ يَشْكُرَ لَنَا ذَلِكَ فِي الدَّارَيْنِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.تَمَّ الْجُزْءُ الْخَامِسُ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ نُشِرَ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ.بَدَأَتُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْجُزْءِ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ سَنَةَ 1328 هـ، فَفَاتَنِي تَصْحِيحُ مَا طُبِعَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتِي تِلْكَ، وَأَتْمَمْتُهُ فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتَيْ هَذَا الْعَامِ (1330هـ) إِلَى الْهِنْدِ فَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي الْبَحْرِ وَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي الْمُدُنِ وَالطُّرُقِ بِالْهِنْدِ، وَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي مَسْقَطَ وَالْكُوَيْتِ وَالْعِرَاقِ، وَقَدْ أَتْمَمْتُهُ فِي الْمَحْجَرِ الصِّحِّيِّ بَيْنَ حَلَبَ وَحَمَاةَ فِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ، وَنُشِرَ آخِرُهُ فِي جُزْءِ الْمَنَارِ الَّذِي صَدَرَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْحِيحِ شَيْءٍ مِمَّا كَتَبْتُهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الرِّحْلَةِ أَيْضًا.وَفِي أَثْنَاءِ هَذَا الْجُزْءِ انْتَهَتْ دُرُوسُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ، وَسَنَسِيرُ فِي تَتِمَّةِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَخَذْنَاهَا عَنْهُ وَنَهْتَدِي بِهَدْيِهِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ. اهـ.
|